فن الكلام

فن الكلام (بين واصل بن عطاء و"ديموستيني")

  • فن الكلام (بين واصل بن عطاء و"ديموستيني")

ثقافة وفنون قبل 5 سنة

فن الكلام (بين واصل بن عطاء و"ديموستيني")

بكر أبوبكر

  قصتان لا بد أن نعرج عليهما يفيداننا في التغلب على القصور والعياء[1] او التلعثم أوخوف المواجهة واليكم هاتين القصتين من مصادرهما التاريخية:

عاش "ديموستيني" خلال العصر الذهبي لليونان، عندما كانت تسوى كل النزاعات العامة بالخطابة، وعندما كان شاباً صغيراً، ذهب إلى الهيئة التشريعية في اثينا – وهي هيئة تشريعية فوضوية مؤلفة من حوالي 6000 عضو من الرجال – كي يتحدث في قضية مهمة. ويمكننا القول بان "ديموستيني"، قد صعق، فقد كان صوته ضعيفاً، وأفكاره مشوشة. وكلما تحدث لوقت أطول نال ما لا يريد، ونزل من المنصة مشبعاً بصيحات الاستهجان.

أقسم "ديموستيني" بأن ذلك لن يتكرر مرة أخرى.

أولاً، تعلم كتابة الخطب، وسرعان ما أصبح الأثرياء يتعاقدون معه لكتابة خطبهم.

ثم ذهب إلى شواطئ بحر إيجة، حيث قام بتقوية صوته عن طريق الصياح بشدة في الرياح لعدة ساعات في كل مرة. ولتحسين قدرته على الالقاء، تدرب على الكلام مع وجود حصى في فمة.

وليتغلب على خوفه، تدرب مع وجود سيف معلق فوق رأسه، ولكي يوضح طريقة العرض والخطاب قام بدراسة أساليب الخطباء العظماء السابقين في هذا المجال.

بعد ذلك بسنوات، تقدم "ديموستيني" إلى الهيئة التشريعية ليحذر القادة من الخطر الداهم الذي يمثله فيليب الثاني ملك مقدونيا. فألهب حماس الحضور بفصاحته ووضع أمام أعضاء الهيئة بعض الأفكار ذات الحجج القوية للتعامل مع المقدونيين. وعندما انتهى من خطابه، وقف الحاضرون يهتفون في آن واحد: " لنذهب ونحارب فيليب".

        أما عن قصة واصل بن عطاء وهو من هو في التاريخ الاسلامي فهو مؤسس مذهب المعتزلة الذي طارت شهرته وتبناه الخلفاء لمدة طويلة من الزمن، فكيف يكون لمن مثله ألا يكون فصيحا؟! بل أنه بالحقيقة لديه علّة في النطق! وكل المذهب يعتمد على العقل والحجة والاقناع ما يحتاج معه للّسان والفصاحة فكانت هذه النقيصة المتمثلة بتلعثم واصل بحرف الراء أن دفعته دفعًا للامام، ولننظر كيف حلّها، مما يقول فيه الكاتب ربيع السملالي:

كان واصلُ بن عطاء (ابوحذيفة)[2] المعتزلي بارعًا في اللّغة، حافظًا لها، مجيدًا لأساليبها، مشهورًا بالبلاغة، ومعروفًا بسُرعة الجواب، وحضور البديهة.. وكان مع ذلك كلّه قبيحَ اللَّثغة شنيعَها لا يستطيع النّطق بالرّاء، يتجنّبها في كلامه، ويأتي بما يرادفها في الخُطب الطويلة، حتّى قال فيه بعضهم:

عليم بإبدال الحُروف وقامع / لكلّ خطيب يبلغُ الحقَّ باطلُه.

كان يُضرب به المثل في إسقاطه حرف الرّاء من كلامه، واستعملَ الشّعراء ذلك في شعرهم كثيرًا، فمنه قول أبي محمد الخازن من جملة قصيدة طنّانة طويلة يمدح بها الصّاحب أبا القاسم إسماعيل بن عبّاد وهو:

نعم تجنّبَ "لا" يومَ العطاء كما  /تجنّبَ ابنُ عطاء لفظة الرّاء

ويذكرعنه الجاحظ صاحب كتاب "البيان والتبيين": رام أبو حذيفة إسقاط الراء من كلامه وإخراجها من حروف منطقه، فلم يزل يكابد ذلك ويغالبه، ويناضله ويساجله، ويتأتى لسَتره والراحة من هجنته، حتى انتظم له ما حاول، واتسق له ما آمل، حتى صار لغرابته مثلا، ولظرافته معلما.

وإن أردت أن الحق بالركب المتلعثم أعلاه، فلكم أن تعلموا انني كنت ممن يتخفّى خلف الآخرين خوف المواجهة أو مقابلة الجمهور، رغم أنني كنت مجتهدا في دراستي، فجاهدت حتى شقيت للتخلص من هذه الآفة، أي مهابة المواجهة للجمهور خاصة على المسرح، ليس لخلل في اللسان أو لقصر في المعلومات، وإنما لضعف السمة الاتصالية ما نجحت في تجاوزه بعد زمن.

 

 

 الحواشي

 

 

________________________________________

[1]  يذكر الجاحظ في البيان والتبيين أن: اللثغة أربعة هي القاف والسين واللام والراء. فاللثغة التي تعرض للقاف يجعل صاحبها القاف طاء فيقول طلت بدل قلت. واللثغة التي تعرض للسين يجعل صاحبها السين ثاء، فيقول: أبو يكثوم بدل أبي يكسوم، ويقول بثم الله بدل باسم الله. أما اللثغة التي تقع في اللام، فيجعل بعض أصحابها اللام ياء ويقول اعتييت بدل اعتللت، وجمي بدل جمل. ويجعل بعضهم الآخر اللام كافا فيقول مكعكة في هذا بدل ما العلة في هذا. وأما اللثغة التي تقع في الراء فتتم بأربعة أحرف هي الياء والغين والذال والطاء. ويقول أصحابها عمي بدل عمرو، أو يقول عمغ بدل عمرو، أو يقول مذة بدل مرة، أو يقول مظة بدل مرة.

 

[2] كنيتُه أبو حُذَيْفَة وكان يُلقّب بالغزّال لأنّه كان يُلازم الغزّالين بسوق البصرة ليعرفَ المُتعفّفات من النّساء فيجعل صدقته لهنّ.وكان طويلَ العُنق جدّا، وقد هجاه بشّار بن بُرد المذكور آنفًا بقوله:

ماذا مُنيت بغزّال له عنق /كَنقنقِ الدّوّ إن ولّى وإن مَثُلا

عُنْقَ الزّرافة ما بالي وبالكم/تكفّرون رجالاً كفّروا رجلاً؟

 ذكرها ابن خلّكان في وفياته، وفي رواية عند الجاحظ: مالي أشايعُ غزّالاً له عنق.. الأبيات.

ووصفه الذّهبي بقوله: وكانَ صموتًا . (أنظر جلال الصمت وهيبته، مع فصاحة البيان)

 

 

 

 

 

 

 

 

بكر أبوبكر

كاتب وأديب عربي فلسطيني

في الفكر والدراسات العربية والاسلامية

 

التعليقات على خبر: فن الكلام (بين واصل بن عطاء و"ديموستيني")

حمل التطبيق الأن